القيمة الروحية والدينية للقدس

 لعبت مدينة القدس دورا محوريا تتضاءل دونه بقية الاعتبارات التي تضافرت عبر التاريخ في سبيل إعلاء شأن هذه المدينة المقدسة، تتمثل مكانتها من خلال اهم المراحل التاريخية لحياة السيد المسيح عيسي بن مريم (عليه السلام). فالقدس مكان الخلاص والانبعاث وهي مكان بدا الانطلاق العجيب لبشارة المحبة والعطاء وبذل الذات في خدمة الأفراد والجماعات، ولتوحيدهم تحت راية الإخاء والتضامن.

وهي أيضا، احدي المدن التي شهدت معجزات السيد المسيح واستمعت إلي رسالته الخلاصية، تبرز معها مدن كبيت لحم حيث ولد والناصرة حيث ترعرع وأريحا وكفر ناحوم وصور والصرفند وصيدا. ولكنها تمتاز عن بقية واقضية فلسطين في أنها أصبحت القطب المركزي لرسالة المسيح الدينية .

واكتسبت مدينة القدس لدي المسيحيين مجدا روحيا ومعنويا. وهذا المجد يتمثل بقوة ورمز الخلاص ففيها صنع السيد المسيح أهم واجلي معجزاته كإقامة الأموات وشفاء الأمراض المستعصية، ففي مراة هذه الصورة المتجلية في الإيمان تظهر ملامح مدينة القدس الروحية، تنبثق من قدسية سيرة السيد المسيح في رسالته التي بعث بها.

وارتفعت القدس إلي مرتبة القبلة الأولي للمسلمين بعد إسراء الرسول الأعظم صلي الله عليه وسلم إليها وبعد معراجه ورفعه جسدا وروحا إلي مكان سدرة المنتهي ومقابلته الأنبياء الذين سبقوه من ادم إلي عيسي بن مريم خلال رحلته عبر طبقات السماء السبع.

وقد جاء في قوله تعالي " سبحان الذي اسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلي المسجد الاقصي الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا انه هو السميع البصير" (الإسراء 21).

وبعد أن نزلت سورة البقرة في السنة الثانية للهجرة حولت قبلة الصلاة في الإسلام إلي جهة مكة المكرمة ويشهد لهذا التحول الجذري ما جاء في قوله تعالي " قد نري تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ماكنتم فولوا وجوهكم شطره " (سورة البقرة).

ولم يضعف هذا التحول مكانة بيت المقدس الدينية في وحي الإسلام وفي ممارسة الأمة الإسلامية، وبقيت القدس تعتبر المدينة الثانية في الإسلام بعد مكة المكرمة يحج إليها عامة الذين أتموا فريضة الحج إلي عرفات وفيها ثالث الحرمين.

وقد اجمع أئمة المفسرين غلي أن نص القران هذا يعني الاتصال الوثيق بين مكة المكرمة حيث المسجد الحرام وبيت المقدس حيث المسجد الاقصي، وتحقيقا لهذا الارتباط الديني بين هاتين المدينتين قاعدتي النبوة الإسلامية ارتأى الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أن يبني مسجدا ولو كان وضيعا في هذا الموضع لإقامة الصلاة، وترك للمسيحيين كنائسهم ومعابدهم القائمة يوم فتح مدينة القدس. يومها قطع الخليفة لبطريرك المسيحيين الملكيين صفرونيوس الدمشقي عهدا علي نفسه وعلي الخلفاء من بعده بان تترك للمسيحيين حصانة كنائسهم ومعابدهم ومزاراتهم وأديرتهم علي أن يدفعوا الجزية. ورفض حينئذ خليفة الرسول تأدية الصلاة في صحن كنيسة القيامة أو في ساحتها الخارجية أو في احدي الكنائس الاخري. واتخذ من المكان الذي دخله النبي محمد (صلي الله عليه وسلم) عند باب المغاربة داخل الحرم القدسي موضعا لبناء أول مسجد للصلاة، ثم بني عبدالملك بن مروان الأموي من بعده قبة الصخرة عام 72هـ (691م) كما شيد الخليفة الوليد بن عبد الملك المسجد الاقصي علي مقربة من الجنوب من قبة الصخرة عام86هـ (705م) ويعتقد البعض أن الخليفة عبد الملك بن مروان قد بني أيضا الاقصي عام 74هـ (693م).

وقد عني الخلفاء والسلاطين عبر العصور بترميم وتزيين وتوسيع قبة الصخرة والمسجد الاقصي وما يحتوي الحرم الشريف من زوايا ومدارس وأوقاف.

وجعلوا من هذا الحرم المقدسي محجا جليلا مضيافا يليق بمقامه الديني المرتبط بالوحي القرآني وبتاريخ الإسلامي في اسمي واشرف مظاهر أركانه منذ فجره، وقد جاءت أبنية هذا الحرم الشريف بمجملها آية في الفن المعماري والهندسة وآية في الروعة.

ويرجع الفكر الإسلامي في تأمله الديني إلي ما يرمز إليه المسجد الحرام في مكة المكرمة والمسجد الاقصي في بيت المقدس إلي أصول التوحيد الحقيقي إلي ذكر نبينا إبراهيم الخليل أبي المؤمنين الأول (عليه السلام). ويتفق المسلمون في هذه الذكري وفي هذا الإجلال لشخص النبي إبراهيم مع اليهود، كما أوحيت لكليم الله النبي موسي (عليه السلام) وروح الله عيسي بن مريم (عليه السلام) مؤيدا بروح القدس.

وهكذا اجتمعت كثير من الشرائع السماوية في تكريم مدينة القدس تكريما تتصل أصوله بجوهر الاعتقاد. ولكل شريعة اعتباراتها ورؤيتها الموضوعية التي تمت إلي صلب الشعور الديني الأصيل، وان الرجوع إلي المصادر الكتابية يلقي ضوءا نيرا علي الحقيقة المجردة البعيدة عن ملابسات وأضاليل الادعاءات التي تروجها سلطات الاحتلال ووسائل الإعلام المغرضة.

أما علي الصعيد الدولي فان مدينة القدس تحتل مكانة دينية فريدة بين الديانات الكتابية الثلاث لارتباطها الوثيق بمعتقداتها الأساسية، وبالشخصيات النبوية التي أوحي بها إليها، أو ساهمت في بعثها وانتشارها. وقد ظهر جليا أن المسلمين والمسيحيين يكتفون بما توحيه إليهم قراءة كتبهم لسيرة السيد المسيح عليه السلام والنبي محمد صلي الله عليه وسلم وعبر تاريخهم ليضفوا علي بيت المقدس طابعا دينيا بحتا أما اليهود فإنهم ينظرون إلي القدس نظرة دينية وسياسية مليئة بالملابسات وبالادعاءات، وذات أبعاد استعمارية ترجع بهم إلي فترة بعيدة جدا للتاريخ. تنص هذه النظرة بان القدس يجب ان تعود إلي الشعب المختار ويعملون منذ احتلال فلسطين علي مبدأ الاستبدال ويسعون الي تطبيقه. ويتابعون سياسة الاستيطان غير الشرعي في الأراضي المحتلة دون مراعاة للقرارات وللأحكام الدولية وللرأي العام العالمي.